فصل في بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله سبحانه والنظر إلى وجهه الكريم وأنه لا يتصور أن يؤثر
على ذلك لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة
اعلم : أن اللذات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة غريزة لذة، ولم تخلق هذه الغرائز عبثاً، بل لأمر من الأمور، وهو مقتضاها بالطبع، فغريزة شهور الطعام خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام ، ولذة البصر والسمع فى الإبصار والإسماع.
وكذلك فى القلب غريزة تسمى النور الإلهي، وقد تسمى العقل، وتسمى البصيرة الباطنة، وتسمى نور الإيمان واليقين، وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها بطبعها، فمقتضى طبعها العلم والمعرفة، وذاك لذتها.وليس يخفى أن العلم والمعرفة، ولو فى شئ خسيس يفرح به، وأن من ينسب إلى الجهل ولو فى شئ خسيس يغتم به. وكل ذلك لفرط لذة العلم، وما يستشعره من كمال ذاته. فان العلم من أحسن الصفات ومنتهى الكمال، ولذلك يرتاح الإنسان بطبعه إذا أثنى عليه بالذكاء، وغزارة العلم، ثم ليس لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق، ولا لذة العلم بالشعر والنحو، كلذة العلم بالله تعالى وملائكته وملكوت السموات والأرض، بل لذة العلم بقدر شرف العلم، وشرف العلم بقدر شرف المعلوم، فبهذا استبان أن ألذ المعارف وأشرفها، وشرفها بحسب شرف المعلوم، فإن كان فى المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم، فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها.
وليت شعري، هل فى الوجود شئ أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها. ومزينها ومبديها ومعيدها ومدبرها ومرتبها ؟ وهل يتصور أن يكون حضرة فى الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بجلالها وكمالها وعجائب أمورها وصف الواصفين ؟
فينبغي أن تعرف أن لذة المعرفة أقوى من جميع اللذات المدركة بالحواس الخمس، فإن المعاني الباطنة أغلب على ذوى الكمال من اللذات الظاهرة. فلو خير الرجل بين لذة أكل الدجاج السمين واللوزينج، وبين لذى الرياسة، وقهر الأعداء، ونيل درجة الاستيلاء، فان كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد الشهوة البهيمية اختار اللحم والحلواء، وإن كان علي الهمة، كامل العقل، فإنه يختار الرياسة، ويهون عليه الجوع والصبر على ضرورة القوت أياماً.
فاختياره للرياسة دليل على أنه ألذ عنده من المطعومات الطيبة، وكما أن لذة الرياسة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الناقص الهمة، فلذة معرفة الله سبحانه وتعالى والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق وهذا لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعاً، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر، وينغمس فى بحار المعرفة، ويترك الرياسة، ويحتقر الخلق، لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته، وكون ذلك مشوباً بالكدر، مقطوعاً بالموت. وتعظم عنده معرفة الله سبحانه وتعالى، ومطالعة صفاته وأفعاله، ونظام مملكته، فإنها خالية عن الزاحمات والمكدرات، متسعة للمتواردين عليها، لا تضيق عنهم ، فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض ، يرتع فى رياضتها، ويقطف من ثمارها، ويكرع من حياضها، وهو آمن من انقطاعها، إذ هي أبدية سرمدية، لا يقطعها الموت، لأن الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى، إذ محلها الروح، وإنما الموت يغير أحوالها، أما أن يعدمها فلا.
والعارفون درجات عند الله تعالى متفاوتون، لا يدخل تفاوت درجاتهم تحت الحصر، وهذه الأمور لا تدرك إلابالذوق، والحكاية فيها قليلة الجدوى. فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله تعالى ألذ الأشياء، وأنه لا لذة فوقها ولهذا قال أبو سليمان الدارانى رحمه الله : إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله عز وجل خوف النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله تعالى ؟
وقال بعض أصحاب معروف: قلت له: أي شئ أهاجك على العبادة؟ فسكت. فقلت: ذكر الموت؟ فقال: وأي شئ الموت؟ قلت: ذكر القبر. فقال وأي شئ القبر؟ قلت : خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأي شئ هذا ؟ إن ملكاً هذا كله بيده، إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع ذلك.
وقال أحمد بن الفتح : رأيت بشر بن الحارث فى منامى، فقلت له: ما فعل معروف الكرخى؟ فحرك رأسه ثم قال: هيهات ، حالت بيننا وبينه الحجب، إن معروفا لم يعبد الله شوقاً إلى جنته ولا خوفاً من ناره، وإنما عبده شوقاً إليه، فرفعه الله إلى الرفيق الأعلى ، ورفع الحجب بينه وبينه.
فمتى حصلت محبة الله تعالى لشخص، صار قلبه مستغرقاً بها، ولا يلتفت إلى جنة ، ولا يخاف من نار، فإنه قد بلغ النعيم الذي ليس فوقه نعيم. قال بعضهم:
وهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته
وإنما أراد بهذا لذة القلب فى معرفة الله تعالى . وأنها مفضلة على لذة الأكل والشرب والنكاح، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، وأما القلب فلذته فى لقاء الله تعالى فقط.
واعلم : أن لذة النظر فى الآخرة تزيد على المعرفة فى الدنيا، وقد اقتضت سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن، ومقتضى الشهوات وما يغلب عليها من الصفات البشرية، ولا تنتهي إلى المشاهدة، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة، كحجاب الأجفان عن رؤية الإبصار.والقول في سبب كونه حجابا يطول، فإذا ارتفع الحجاب بالموت ، بقيت النفس وفيها نوع تلوث بالدنيا، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وقد صفوا عن الأكدار، تجلى لهم الحق سبحانه وتعالى على قدر معرفتهم فى الدنيا.
فكل من لا يعرف الله تعالى فى الدنيا، لا يراه فى الآخرة. وما يستأنف لأحد في الآخرة مالم يصحبه فى الدنيا، ولا يحصد أحد ما زرع، ولا يموت المرء إلا على ما عاش عليه ، فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه، إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء، فتضاعف اللذة، والعيش عيش الآخرة . { وإن الدار الآخرة لهى الحيوان} [العنكبوت : 64]
وعيش الآخرة بقدر المعرفة، ولهذا جاء فى الحديث: “خير الناس من طال عمره وحسن عمله” وذلك لأن المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع فى العمر الطويل بمداومة الفكر والذكر، والمواظبة على المجاهدة، والانقطاع عن علائق الدنيا، والتجرد للطلب، فقد عرفت بما ذكرنا معنى المحبة، ومعنى لذة المعرفة، ومعنى الرؤية ولذتها، ومعنى كونها ألذ من سائر اللذات عند أهل الكمال.
2ـ فصل في بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى وتفاوت الناس فى الحب وبيان السبب فى قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى
واعلم : أن أسعد الناس وأحسنهم حالاً فى الآخرة أقواهم حباً لله تعالى، فإن الآخرة معناه القدوم على الله تعالى، ودرك سعادة لقائه. وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، وتمكن من مشاهدته من غير منغص ولا مكدر، إلا أن هذا النعيم على قدر المحبة، فكلما ازداد الحب ازدادت اللذة.
وأصل الحب لا ينفك عن مؤمن ، لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، وأما قوة الحب واستيلاؤه، فذلك ينفك عنه الأكثرون ، وإنما يحصل ذلك بشيئين:
أحدهما : قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، فأحد أسباب ضعف حبه، قوه حب الدنيا ، وبقدر ما يأنس القلب بالدنيا ينقص أنسه بالله، والدنيا والآخرة ضرتان، وسبيل قطع الدنيا عن القلب سلوك طريق الزهد، وملازمة الصبر والانقياد إليهما بزمام الخوف والرخاء، وما ذكرناه من المقامات كالتوبة والصبر والشكر والزهد والخوف وغير ذلك.
السبب الثاني لقوة المحبة: معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة تبعتها المحبة، ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا الفكر الصافي، والذكر الدائم، والتشمير فى الطلب، والاستدلال عليها بأفعاله سبحانه : وأقل أفعاله الأرض وما عليها ،بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السموات .
والشمس على ما يرى من صغر حجمها مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، فانظر إلى صغر الأرض بالإضافة إليها، ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى فلكها الذي هي مركوزة فيه وهى فى السماء الرابعة ((لم يثبت فى هذا خبر تصح نسبته إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما ضرب من الاجتهاد الإنساني الذي يخضع للمقاييس العلمية الدقيقة، ويحكم عليها بموجبها من صواب أو خطأ)) والسماء الرابعة صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها من السموات ، ثم السموات السبع فى الكرسي كحلقة ملقاة فى فلاة، والكرسي في العرش كذلك.
ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من التراب هو جزء من الارض، وإلى سائر الحيوانات، وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض، واصغر ما تعرفه من الحيوانات البعوض، فانظر فيه بعقل حاضر، كيف خلقه الله عز وجل على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات، وزاده الجناحين، وانظر كيف شق سمعه وبصره، وخلق فى باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته، ودبره فى سائر أحواله، من القوى الجاذبة والدافعة والهاضمة، وانظر كيف خلق له الطيران، يطير إذا طلب ، وجعل له خرطوماً محددا يمص به الدم.
وانظر إلى النحل في تناولها الأزهار من الأنوار ، واحترازها عن الأقذار، وطاعتها إلى كبيرها، حتى إنه يقتل كل ما ورد عليه وقد أكل مستقذراً، والى اختيارها الشكل المسدس، فلا تبنى بيتاً مربعاً، ولا مستديراً، ولا مخمساً، بل مسدساً لخاصيته فى الشكل المسدس، فإن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه، فإن المربع تخرج منه الزوايا ضائعة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، فلا شكل فى الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه ، بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلى المسدس، فانظر كيف الهمه الله تعالى ذلك على صغر حجمه وضعفه، فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات، فالنظر فى هذا وأشباهه تزداد المعرفة به، فتزداد المحبة.
وأما السبب فى تفاوت الناس فى الحب.
فاعلم أن الناس مشتركون فى أصل الحب، لكنهم يتفاوتون لتفاوت المعرفة، فكثير من الناس ليس لهم من معرفة الله إلا الصفات والأسماء التي قرعت أسماعهم، والعالم البصير يطالع تفصيل صنع الله تعالى حتى يرى ما يبهر عقله، فتزداد عظمة الله فى قلبه، فيزداد حباً له، وتجر هذه المعرفة التي هي معرفة عجائب صنع الله تعالى إلى بحر لا ساحل له.
وأما السبب فى قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى، فاعلم أن كل من صنع شيئاً دل المصنوع على وجود صانعه، وعلى علمه وحياته وقدرته دلالة جلية ظاهرة، وإن كانت هذه الصفات لا تدرك بشيء من الحواس الخمس. فوجود الله سبحانه وتعالى وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهد من حجر وشجر ومدر ونبات وحيوان وأرض وسماء وكوكب وبر وبحر ، بل أول شاهد علينا أنفسنا وأجسامنا، وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا، وجميع أطوارنا فى حركاتنا وسكناتنا.
وجميع ما فى العالم شواهد ناطقة، وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها، ودالة على علمه وقدرته وحياته ولطفه وحكمته وعظمته وجلاله، إذ كل ذرة تنادى بلسان حالها: إنه ليس وجودها بنفسها، وإنها تحتاج إلى موجد لها، لكن عقولنا بالنسبة إلى إدراك الحضرة الإلهية، كالخفاش بالنسبة إلى النهار، فإنه لضعف بصره يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، وليس عدم إبصاره بالنهار لخفائه، بل لشدة ظهوره واستنارته وضعف أعين الخفاش، فكذلك عقولنا ضعيفة عن إدراك الحضرة الإلهية، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى به عن البصائر والأبصار، فهذا هو السبب فى قصور الأفهام عن معرفة الله سبحانه وتعالى، وانضم إلى ذلك أيضاً أن المدركات الشاهدة لله تعالى، إنما يدركها الإنسان فى حال الصبا قبل حضور العقل عنده، ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً، وهو مستغرق الهم، مشغول به، وقد أنس بمدركاته وألفها، فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس.وكذلك إذا رأى فجأة حيواناً غريباً، أو نباتاً ، أو فعلاً من أفعال الله تعالى عجيباً خارقا للعادة، انطلق لسانه بالتعجب، فقال: سبحان الله ! سبحان الله! وهو يرى طول النهار نفسه، وجميع أعضائه، وجميع الحيوانات المألوفة، وكلها شواهد قاطعة، فلا يحس بشهادتها لطول الأنس بها.
ولو فرض أن أعمى بلغ عاقلاً، ثم انقشعت غشاوة عينه، فامتد بصره إلى السماء والأرض، والأشجار، والنبات، والحيوان دفعة واحدة، لخيف على عقله أن ينبهر، لعظم عجبه من مشاهدة هذه العجائب، وشهادتها لخالقها، فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك فى الشهوات، وهو الذي سد على الخلق فى سبيل الاستضاءة بنور المعرفة، والسباحة فى بحارها الواسعة، والله أعلم وأحكم
على ذلك لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة
اعلم : أن اللذات تابعة للإدراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة غريزة لذة، ولم تخلق هذه الغرائز عبثاً، بل لأمر من الأمور، وهو مقتضاها بالطبع، فغريزة شهور الطعام خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام ، ولذة البصر والسمع فى الإبصار والإسماع.
وكذلك فى القلب غريزة تسمى النور الإلهي، وقد تسمى العقل، وتسمى البصيرة الباطنة، وتسمى نور الإيمان واليقين، وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها بطبعها، فمقتضى طبعها العلم والمعرفة، وذاك لذتها.وليس يخفى أن العلم والمعرفة، ولو فى شئ خسيس يفرح به، وأن من ينسب إلى الجهل ولو فى شئ خسيس يغتم به. وكل ذلك لفرط لذة العلم، وما يستشعره من كمال ذاته. فان العلم من أحسن الصفات ومنتهى الكمال، ولذلك يرتاح الإنسان بطبعه إذا أثنى عليه بالذكاء، وغزارة العلم، ثم ليس لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق، ولا لذة العلم بالشعر والنحو، كلذة العلم بالله تعالى وملائكته وملكوت السموات والأرض، بل لذة العلم بقدر شرف العلم، وشرف العلم بقدر شرف المعلوم، فبهذا استبان أن ألذ المعارف وأشرفها، وشرفها بحسب شرف المعلوم، فإن كان فى المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم، فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها.
وليت شعري، هل فى الوجود شئ أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها. ومزينها ومبديها ومعيدها ومدبرها ومرتبها ؟ وهل يتصور أن يكون حضرة فى الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بجلالها وكمالها وعجائب أمورها وصف الواصفين ؟
فينبغي أن تعرف أن لذة المعرفة أقوى من جميع اللذات المدركة بالحواس الخمس، فإن المعاني الباطنة أغلب على ذوى الكمال من اللذات الظاهرة. فلو خير الرجل بين لذة أكل الدجاج السمين واللوزينج، وبين لذى الرياسة، وقهر الأعداء، ونيل درجة الاستيلاء، فان كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد الشهوة البهيمية اختار اللحم والحلواء، وإن كان علي الهمة، كامل العقل، فإنه يختار الرياسة، ويهون عليه الجوع والصبر على ضرورة القوت أياماً.
فاختياره للرياسة دليل على أنه ألذ عنده من المطعومات الطيبة، وكما أن لذة الرياسة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الناقص الهمة، فلذة معرفة الله سبحانه وتعالى والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق وهذا لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعاً، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر، وينغمس فى بحار المعرفة، ويترك الرياسة، ويحتقر الخلق، لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته، وكون ذلك مشوباً بالكدر، مقطوعاً بالموت. وتعظم عنده معرفة الله سبحانه وتعالى، ومطالعة صفاته وأفعاله، ونظام مملكته، فإنها خالية عن الزاحمات والمكدرات، متسعة للمتواردين عليها، لا تضيق عنهم ، فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض ، يرتع فى رياضتها، ويقطف من ثمارها، ويكرع من حياضها، وهو آمن من انقطاعها، إذ هي أبدية سرمدية، لا يقطعها الموت، لأن الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى، إذ محلها الروح، وإنما الموت يغير أحوالها، أما أن يعدمها فلا.
والعارفون درجات عند الله تعالى متفاوتون، لا يدخل تفاوت درجاتهم تحت الحصر، وهذه الأمور لا تدرك إلابالذوق، والحكاية فيها قليلة الجدوى. فهذا القدر ينبهك على أن معرفة الله تعالى ألذ الأشياء، وأنه لا لذة فوقها ولهذا قال أبو سليمان الدارانى رحمه الله : إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله عز وجل خوف النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغلهم الدنيا عن الله تعالى ؟
وقال بعض أصحاب معروف: قلت له: أي شئ أهاجك على العبادة؟ فسكت. فقلت: ذكر الموت؟ فقال: وأي شئ الموت؟ قلت: ذكر القبر. فقال وأي شئ القبر؟ قلت : خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأي شئ هذا ؟ إن ملكاً هذا كله بيده، إن أحببته أنساك جميع ذلك، وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع ذلك.
وقال أحمد بن الفتح : رأيت بشر بن الحارث فى منامى، فقلت له: ما فعل معروف الكرخى؟ فحرك رأسه ثم قال: هيهات ، حالت بيننا وبينه الحجب، إن معروفا لم يعبد الله شوقاً إلى جنته ولا خوفاً من ناره، وإنما عبده شوقاً إليه، فرفعه الله إلى الرفيق الأعلى ، ورفع الحجب بينه وبينه.
فمتى حصلت محبة الله تعالى لشخص، صار قلبه مستغرقاً بها، ولا يلتفت إلى جنة ، ولا يخاف من نار، فإنه قد بلغ النعيم الذي ليس فوقه نعيم. قال بعضهم:
وهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته
وإنما أراد بهذا لذة القلب فى معرفة الله تعالى . وأنها مفضلة على لذة الأكل والشرب والنكاح، فإن الجنة معدن تمتع الحواس، وأما القلب فلذته فى لقاء الله تعالى فقط.
واعلم : أن لذة النظر فى الآخرة تزيد على المعرفة فى الدنيا، وقد اقتضت سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن، ومقتضى الشهوات وما يغلب عليها من الصفات البشرية، ولا تنتهي إلى المشاهدة، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة، كحجاب الأجفان عن رؤية الإبصار.والقول في سبب كونه حجابا يطول، فإذا ارتفع الحجاب بالموت ، بقيت النفس وفيها نوع تلوث بالدنيا، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وقد صفوا عن الأكدار، تجلى لهم الحق سبحانه وتعالى على قدر معرفتهم فى الدنيا.
فكل من لا يعرف الله تعالى فى الدنيا، لا يراه فى الآخرة. وما يستأنف لأحد في الآخرة مالم يصحبه فى الدنيا، ولا يحصد أحد ما زرع، ولا يموت المرء إلا على ما عاش عليه ، فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه، إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء، فتضاعف اللذة، والعيش عيش الآخرة . { وإن الدار الآخرة لهى الحيوان} [العنكبوت : 64]
وعيش الآخرة بقدر المعرفة، ولهذا جاء فى الحديث: “خير الناس من طال عمره وحسن عمله” وذلك لأن المعرفة إنما تكمل وتكثر وتتسع فى العمر الطويل بمداومة الفكر والذكر، والمواظبة على المجاهدة، والانقطاع عن علائق الدنيا، والتجرد للطلب، فقد عرفت بما ذكرنا معنى المحبة، ومعنى لذة المعرفة، ومعنى الرؤية ولذتها، ومعنى كونها ألذ من سائر اللذات عند أهل الكمال.
2ـ فصل في بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى وتفاوت الناس فى الحب وبيان السبب فى قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى
واعلم : أن أسعد الناس وأحسنهم حالاً فى الآخرة أقواهم حباً لله تعالى، فإن الآخرة معناه القدوم على الله تعالى، ودرك سعادة لقائه. وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، وتمكن من مشاهدته من غير منغص ولا مكدر، إلا أن هذا النعيم على قدر المحبة، فكلما ازداد الحب ازدادت اللذة.
وأصل الحب لا ينفك عن مؤمن ، لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة، وأما قوة الحب واستيلاؤه، فذلك ينفك عنه الأكثرون ، وإنما يحصل ذلك بشيئين:
أحدهما : قطع علائق الدنيا، وإخراج حب غير الله من القلب، فأحد أسباب ضعف حبه، قوه حب الدنيا ، وبقدر ما يأنس القلب بالدنيا ينقص أنسه بالله، والدنيا والآخرة ضرتان، وسبيل قطع الدنيا عن القلب سلوك طريق الزهد، وملازمة الصبر والانقياد إليهما بزمام الخوف والرخاء، وما ذكرناه من المقامات كالتوبة والصبر والشكر والزهد والخوف وغير ذلك.
السبب الثاني لقوة المحبة: معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة تبعتها المحبة، ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا الفكر الصافي، والذكر الدائم، والتشمير فى الطلب، والاستدلال عليها بأفعاله سبحانه : وأقل أفعاله الأرض وما عليها ،بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السموات .
والشمس على ما يرى من صغر حجمها مثل الأرض مائة ونيفاً وستين مرة، فانظر إلى صغر الأرض بالإضافة إليها، ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى فلكها الذي هي مركوزة فيه وهى فى السماء الرابعة ((لم يثبت فى هذا خبر تصح نسبته إلى النبى صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما ضرب من الاجتهاد الإنساني الذي يخضع للمقاييس العلمية الدقيقة، ويحكم عليها بموجبها من صواب أو خطأ)) والسماء الرابعة صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها من السموات ، ثم السموات السبع فى الكرسي كحلقة ملقاة فى فلاة، والكرسي في العرش كذلك.
ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من التراب هو جزء من الارض، وإلى سائر الحيوانات، وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض، واصغر ما تعرفه من الحيوانات البعوض، فانظر فيه بعقل حاضر، كيف خلقه الله عز وجل على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات، وزاده الجناحين، وانظر كيف شق سمعه وبصره، وخلق فى باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته، ودبره فى سائر أحواله، من القوى الجاذبة والدافعة والهاضمة، وانظر كيف خلق له الطيران، يطير إذا طلب ، وجعل له خرطوماً محددا يمص به الدم.
وانظر إلى النحل في تناولها الأزهار من الأنوار ، واحترازها عن الأقذار، وطاعتها إلى كبيرها، حتى إنه يقتل كل ما ورد عليه وقد أكل مستقذراً، والى اختيارها الشكل المسدس، فلا تبنى بيتاً مربعاً، ولا مستديراً، ولا مخمساً، بل مسدساً لخاصيته فى الشكل المسدس، فإن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه، فإن المربع تخرج منه الزوايا ضائعة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، فلا شكل فى الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه ، بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلى المسدس، فانظر كيف الهمه الله تعالى ذلك على صغر حجمه وضعفه، فاعتبر بهذه اللمعة اليسيرة من محقرات الحيوانات، فالنظر فى هذا وأشباهه تزداد المعرفة به، فتزداد المحبة.
وأما السبب فى تفاوت الناس فى الحب.
فاعلم أن الناس مشتركون فى أصل الحب، لكنهم يتفاوتون لتفاوت المعرفة، فكثير من الناس ليس لهم من معرفة الله إلا الصفات والأسماء التي قرعت أسماعهم، والعالم البصير يطالع تفصيل صنع الله تعالى حتى يرى ما يبهر عقله، فتزداد عظمة الله فى قلبه، فيزداد حباً له، وتجر هذه المعرفة التي هي معرفة عجائب صنع الله تعالى إلى بحر لا ساحل له.
وأما السبب فى قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى، فاعلم أن كل من صنع شيئاً دل المصنوع على وجود صانعه، وعلى علمه وحياته وقدرته دلالة جلية ظاهرة، وإن كانت هذه الصفات لا تدرك بشيء من الحواس الخمس. فوجود الله سبحانه وتعالى وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهد من حجر وشجر ومدر ونبات وحيوان وأرض وسماء وكوكب وبر وبحر ، بل أول شاهد علينا أنفسنا وأجسامنا، وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا، وجميع أطوارنا فى حركاتنا وسكناتنا.
وجميع ما فى العالم شواهد ناطقة، وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها، ودالة على علمه وقدرته وحياته ولطفه وحكمته وعظمته وجلاله، إذ كل ذرة تنادى بلسان حالها: إنه ليس وجودها بنفسها، وإنها تحتاج إلى موجد لها، لكن عقولنا بالنسبة إلى إدراك الحضرة الإلهية، كالخفاش بالنسبة إلى النهار، فإنه لضعف بصره يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، وليس عدم إبصاره بالنهار لخفائه، بل لشدة ظهوره واستنارته وضعف أعين الخفاش، فكذلك عقولنا ضعيفة عن إدراك الحضرة الإلهية، فسبحان من احتجب بإشراق نوره، واختفى به عن البصائر والأبصار، فهذا هو السبب فى قصور الأفهام عن معرفة الله سبحانه وتعالى، وانضم إلى ذلك أيضاً أن المدركات الشاهدة لله تعالى، إنما يدركها الإنسان فى حال الصبا قبل حضور العقل عنده، ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً، وهو مستغرق الهم، مشغول به، وقد أنس بمدركاته وألفها، فسقط وقعها عن قلبه بطول الأنس.وكذلك إذا رأى فجأة حيواناً غريباً، أو نباتاً ، أو فعلاً من أفعال الله تعالى عجيباً خارقا للعادة، انطلق لسانه بالتعجب، فقال: سبحان الله ! سبحان الله! وهو يرى طول النهار نفسه، وجميع أعضائه، وجميع الحيوانات المألوفة، وكلها شواهد قاطعة، فلا يحس بشهادتها لطول الأنس بها.
ولو فرض أن أعمى بلغ عاقلاً، ثم انقشعت غشاوة عينه، فامتد بصره إلى السماء والأرض، والأشجار، والنبات، والحيوان دفعة واحدة، لخيف على عقله أن ينبهر، لعظم عجبه من مشاهدة هذه العجائب، وشهادتها لخالقها، فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك فى الشهوات، وهو الذي سد على الخلق فى سبيل الاستضاءة بنور المعرفة، والسباحة فى بحارها الواسعة، والله أعلم وأحكم