العلاقة بين الاحتفال بذكرى مولد رسول
الله صلى الله عليه وسلم وواقع الأمة
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه
ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم
لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى
العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا
محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي
المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
ها هو ذا شهر ربيع قد أقبل من جديد يحمل في طياته
عبق الذكرى، ذكرى ولادة حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهاهم المسلمون في مشارق
الأرض ومغاربها يتهيئون للاحتفال بهذه الذكرى لإلقاء الخطب الرنانة والقصائد
الرائعة والكلمات ذات التأثير والمضمون، ولسوف تجند لذلك وسائل الإعلام على
اختلافها، ولكني أتساءل – يا عباد الله – عن العلاقة بين هذا الاحتفال المتكرر الذي
نسعد به في كل عام وبين واقع الأمة الإسلامية المعرضة عن معظم ما قد جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم المفتونة بمعظم ما تُسْفِيْه علينا رياح الغرب والشرق من هنا
وهناك. ترى هل يقربنا هذا إلى الله عز وجل ورسوله أم إنه يحقق العكس في حياتنا؟
إنني لأشعر أن هذه الاحتفالات الكلامية المتنوعة والمتفننة مع واقعنا الذي وصفت لا
يقربنا إلى الله عز وجل، بل إنه ليفرض الخجل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه
ليفرض علينا أن نستغرق في الاستحياء والخجل من أن نخاطب رسول الله صلى الله عليه
وسلم بكلام لا يؤيده السلوك.
إنكم لتعلمون أنه صلى الله عليه وسلم وَضَعَنَا أمام
جملة من الوصايا والمبادئ، الأوامر والنواهي، وأكد لنا أننا إن أخذنا أنفسنا بهذه
الوصايا والأوامر فلن يتخلى الله عز وجل عنا ولسوف تتحقق مصالحنا الدنيوية ولسوف
يضمن الله لنا مصالح العقبى وسعادة الآخرة أيضاً.
ولكن بعد أن رحل المصطفى صلى الله عليه وسلم ورحل
الرعيل الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم جاء الرابع {خَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ} كما يقول ربنا سبحانه وتعالى، نسوا أو تناسوا معظم تلك
الوصايا، نسوا أو تناسوا معظم تلك الأوامر والنواهي. وإنكم تعلمون أنه صلى الله
عليه وسلم قال فيما صح عنه في حديث طويل:
{ألا لَيُذَادنَّ
رجال عن حوضي} أي ليُطردن رجال عن حوضي {كما
يذاد البعير الضال فأقول: ألا هلموا ألا هلموا فيقال إنك لا تدري كم بدلوا من بعدك،
فأقول: فسحقاً فسحقاً فسحقاً}.
وها أنتم ترون يا عباد الله كيف أنَّا ممعنون في
تبديل ما أمرنا الله سبحانه وتعالى بالمحافظة عليه، ما أمرنا الله سبحانه وتعالى
بأن نكون أمناء وثابتين عليه. ها أنتم ترون المطامع التي تدعونا عن يمين وشمال إلى
أن نغير ونبدل ما قد ائتمنه الله سبحانه وتعالى علينا من أوامر.
إنكم لتعلمون أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال
فيما صح عنه: {لتجدن أَثَرَةً من بعدي فاصبروا حتى
تلقوني على الحوض} قالها في وصية مؤثرة كل التأثير، ونظرنا إلى أنفسنا وإذا
بنا نَكَّسْنَا هذه الوصية أيضاً، استبدلنا بالإيثار الأَثَرَة والاستئثار وبدلاً
من أن نصبر على اللأواء ونصبر على التمسك بالمبدأ الذي أمرنا الله عز وجل به ضجت
منا النفوس والأهواء وأسرعنا نعانق أهواءنا وشهواتنا على النقيض مما أوصانا به رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولقد صح – يا عباد الله – أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم مرَّ مع بعضٍ من أصحابه بِجَدْيٍ ميت ملقى في الطريق فأمسك بأذنه وقال: {من يشتري مني هذا بدرهم} قالوا: يا رسول الله
إننا لا نحبه بشيء وماذا نصنع به؟ قال صلى الله عليه وسلم: لله أشد كراهية للدنيا
بهذا عليكم}. سمعنا هذا الذي يقوله رسول صلى الله عليه وسلم وإذا بنا نضع هذه
الدنيا التي قال عنها رسول الله هذا الذي قال نضعها من أفئدتنا في المركز الأول من
الحب، ألا ترون ها نحن نُهْرَع مساء صباح لجمع المزيد لا نفرق بين أن يكون سبيل ذلك
حلالاً أو حراماً ونظرنا فإذا بنا نجسد الكلام الذي قاله رسول الله صلى الله عليه
وسلم: {لو كان لابن آدم وادٍ من مالٍ لابتغى إليه
ثانياً ولو كان له واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا
التراب} لا يغنيه إلا الموت، لا يحجبه عن هذا الحب إلا القبر الذي
ينتظره.
هذا هو حالنا بعد أن حدثنا رسول الله عن الدنيا
وقيمتها وهو يشبهها بهذا الجدي الميت.
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكم: {لا يؤمن أحدكم بالله حتى أكون أحب إليه من ماله وولده
والناس أجمعين} وفي رواية صحيحة {ونفسه التي
بين جنبيه} ونظرنا وإذا بنا نجعل أفئدتنا لحب كل شيء إلا لحب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، أجل هنالك حب تقليدي مكانه اللسان الذي يمدح، مكانه اللسان الذي
يثني، أما القلب فقد هيمنت عليه الدنيا، هيمنت عليه الشهوات والأهواء.
عباد الله: إنني أتساءل ترى إذا دُعِيْتُ إلى كلام
في مثل هذه المناسبة التي سَنَشْرُفُ بها عما قريب هل الخليق بي أن أتكلم أم الخليق
بي أن أصمت الصمت المعبر عن الخجل، الصمت المعبر عن الإقرار بما انتهت إليه حالتنا
وبالتضييع الذي أوغلنا فيه لوصايا رسول الله وأوامره التي أكدها فيما بيننا؟ أعتقد
أن الأَوْلَى بي هو الصمت، ذلك لأنني إن تكلمت وتحدثت عن الحب الذي لا أجد مصداقاً
له وتحدثت عن الاشتياق إلى رسول الله الذي أجد أن بيني وبين رسول الله جدراناً من
الأهواء والشهوات والدنيا التي هيمنت على كياني فلسوف أشعر بالكذب ولسوف أشعر بأنني
أضع على وجهي قناعاً يناقض ما قد هيمن على قلبي، وأنا أتحدث عن نفسي يا عباد الله،
أنا أتصور أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ينادينا من بعيد في عالمه البرزخي، في
حياته البرزخية: لقد قلت لكم وأنا أودع الدنيا من خلالكم لقد تركتكم على بيضاء نقية
ظاهرها كباطنها ما يزيغ عنها إلا هالك فلماذا زُغتم عن هذا الذي تركتكم عليه؟ لماذا
استعضتم عن ما يسيل لعابكم عليه مما يبرق أمام أعينكم في شرق أو غرب؟
يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو علم المسلمون ما في العتمة والفجر} أي لو
علموا ما في الخروج لصلاة العشاء وصلاة الفجر إلى المسجد لشهود الجماعة {لأتوهما ولو حبواً} ونظرنا إلى أنفسنا عندما يقبل
المساء تتوازعنا السهرات، تتوازعنا المقاصف، تتوازعنا أماكن اللهو ويستمر ذلك بنا
إلى هزيع أخير من الليل ثم نعود وقد امتلأ النعاس بأعيننا، فإذا جاء وقت الفجر
وفتحت المساجد لاستقبال الوافدين إلى المسجد نظرت وإذا بمعظم هذه المساجد يكاد يكون
فارغاً إلا من قلة من الشباب تحرقت قلوبهم وهيمن حبُّ الله عز وجل على قلوبهم، قلة،
أما عِلْيَةُ القوم، أما الطبقة الأولى من الناس، أما رجال الأعمال أو أكثرهم أقول
فهم في شغل شاغل عن هذا الذي قاله رسول الله: {لأتوهما ولو حبواً}. وإني لأتأمل كيف كانت الطرقات إلى
المساجد في عهد رسول الله؟ كانت مظلمة، كانت مليئة بالوحل ومع ذلك فقد كانوا
يتسابقون إلى المساجد لشهود صلاة العتمة والفجر، أما اليوم فالطرق معبدة، الطرق
واسعة مليئة بالأضواء والمساجد كثيرة وقريبة ومع ذلك فإن عِلْيَةَ القوم وإن أكثر
الناس في شغل شاغل عن هذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: فرق ما بيننا اليوم وما بين الرعيل
الأول يتجسد في هذا المشهد الذي ترونه في شخص عمر بن الخطاب يوم وفد إلى الشام
استجابة لرجال الدين المسيحي فيها وقد أصرَّ على أن لا يترك مرقعته التي كان يفضل
لبسها دون غيرها. عاتبه أبو عبيدة عتاباً رقيقاً، قال له عمر: أوَّه يا أبا عبيدة
لو غيرك قالها، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز بغير ما أعزنا الله
به أذلنا الله.
هل تأملتم في معنى هذا الكلام؟ هل تأملتم في المعنى
الذي تترجمه هذه الكلمات؟ إنه يقول: إن هذا التاج الذي يتألق فوق رؤوسنا لم ننسجه
بمالٍ ملكنا، لم ننسجه بحضارةٍ امتلكناها، لم ننسجه بقوة تَغَلَّبْنَا بها، إنما
الذي نسجه يد الله وإنما الذي شرَّفَنَا به ووضعه فوق رؤوسنا هو الله عندما بايعناه
صادقين على الإسلام الذي شرفنا به، فلئن سَكِرْنَا بهذا التاج ونسينا المُتَوِّج
ولئن سكرنا بالنعم، بالحضارة، بالغنى الذي مُتِّعْنَا به ونسينا اليد التي أعطت
إذاً فذلك لؤم هو من شر أنواع اللؤم. لا، لسوف يظل الناس جميعاً يعلمون أن عرب
الجزيرة لم يرقوا إلى سُلَّمِ الحضارة بجهد وإنما قفز بهم قضاء الله عز وجل إلى
أعلى صعد الحضارة عندما التزموا صادقين بهذا الدين.
اليوم ننظر إلى التاج الذي يُزهى به تاريخنا – تاريخ
هذه الأمة – ننتشي بالتاج نعم ولكنا نسينا المتوِّج. عباد الله: أيجوز هذا؟ نتحدث
عن تاريخ الأمة الإسلامية، نتحدث عن الحضارة العربية التي تغلبت في يوم ما على سائر
الحضارات والعلماء الغربيون لا يزالون يعدُّون ذلك لغزاً يستعصي على الشرح والفهم،
نحن نتباهى بهذا التاريخ، نتباهى بهذا التاج ولكنا أعرضنا عن المتوِّج، أعرضنا عن
الذي شرفنا بهذا التاج وشردت أعيننا إلى بعيدٍ بعيد، شردت أعيننا إلى التقاليد
الممجوجة، شردت أعيننا إلى الأهواء وعما قريب ستودعنا الأهواء أو نودعها، وعما قريب
سنرحل ولسوف يجد كل واحد منا مقره في حفرة ضيقة لا تكاد تتسع إلا له، ولسوف نحيا
ونعود لنقف بين يدي رب العالمين فماذا أنتم قائلون؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله
العظيم.