احد خطب الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي
أهمية ذكر الموت في حياة المسلم
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
أحدثكم اليوم في أمرٍ ما أكثر من يشمئزون من الحديث عنه وما أكثر الفئات التي تستوحش من الاستماع إلى حديثه، ألا وهو الحديث عن الموت.
ويا عجباً لم يستوحش من الحديث عن الموت أو يشمئز من الاستماع إلى حديثه وشأنه وقد سمع رسولَ الله يقول في الحديث الصحيح:
(أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات فإنه ما ذُكِرَ في كثيرٍ – أي من المعاصي – إلا قلَّلَه، وما ذُكِرَ في قليلٍ – أي من الطاعات – إلا كثَّرَه).
تذكُّر الموت مع فهم معناه هو الذي يُقَلِّم مخالب البغي في المجتمع، تذكر الموت مع معرفة حقيقته هو الذي يحطم أنياب الظلم والطغيان في المجتمع، تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الذي يجتث الفساد من جوانب المجتمع. أجل – يا عباد الله – تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الكابح الذي يقي المجتمع من الانزلاق في مهاوي الفساد ومهاوي الضلال، هو الكابح الذي يوقظ الأفراد والمجتمعات إلى الطريق السوي ويبعدهم عن المنزلقات المهلكة، وأنتم تعلمون أن الكابح وإن كان دوره في الواقع المرئي يأتي بعد التصرف ولكن دوره في الاعتبار يكون قبل التصرف. من أجل هذا قدَّمَ البيان الإلهي الموت على الحياة عندما قال:
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }[الملك : 1-2]
كان المقتضى – بحسب الظاهر – أن يقول: الذي خلق الحياة والموت. ذلك هو الترتيب المرئي في واقعنا المعاش ولكنه الكابح والكابح ينبغي أن يكون دائماً مقدماً في الذهن، ينبغي أن يكون مقدماً في الاعتبار.
فأنا إنما أريد أن أذكر نفسي وأن أذكركم بهذا الذي يأمرنا رسول الله بأن نكثر من ذكره. أريد أن أحدثكم عن الكابح الذي ينبغي أن لا ننساه في غمار حياتنا الاجتماعية المختلفة. الموت الذي أكَّدَ البيان الإلهي في أكثر من أسلوب ومناسبة بأن الإنسان على موعد بل على ميعاد حتمي معه، ألم يقل:
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة : 8].
ألم يقل:
(أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء : 78].
ألم يقل:
(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران : 185].
ألم يقل لحبيبه المصطفى:
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر : 30].
ولكن ما هو الموت يا عباد الله؟
لقد تسربت إلينا عدوى من الغرب تقول: إن الموت هو العدم. وما أكثر ما تسربت إلينا من العدوى عدوى الأفكار، عدوى الشعارات، عدوى الخرافات فتوضعت فيما بيننا، ألا تسمعون إلى قائلهم يقول: لقد حُكِمَ على فلان بالإعدام، يُفَسَّرُ الموت بالعدم، فهل الموت هو العدم يا عباد الله؟ معاذ الله. الموت هي مرحلة الحياة الثالثة من مراحل أربع لابد أن يتنقل فيها الإنسان من واحدة إلى أخرى أما المرحلة الأولى فهي حياة الأجنة، تليها هذه المرحلة التي نعيشها اليوم في غمار دنيانا هذه، أما المرحلة الثالثة فهي الحياة البرزخية التي سننتقل إليها من خلال بوابة الموت، وأما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي التي تكون في دار القرار يوم تقوم الساعة. وكل مرحلة من هذه المراحل أوسع مجالاً وأقوى حقيقة من المرحلة التي قبلها. أقول لكم كلاماً ينبثق من قوانين العلم ولا ينبثق من الأخيلة الخيالية أو الغيبية أبداً.
الإنسان – يا عباد الله – ثنائي التركيب، سواء وهو يعيش فوق الأرض حياتَه الدنيوية هذه أو يعيش حياته البرزخية بعد أن يؤول إلى القبر الذي هو على موعدٍ معه، هو على كلٍّ ثنائي التركيب.
أما في حياته الدنيا فتكون الروح تابعة للجسد، تكون الروح محبوسة في هذه المرحلة لحساب الجسد، لا تستطيع الروح أن تتحرك إلا ضمن النطاق الذي يستطيع الجسد أن يتحركه، فإذا انتقل الإنسان إلى الحياة البرزخية انعكس الأمر وأصبح الجسد هو التابع للروح وأصبحت الروح أشبه ما تكون بهذه الشمس التي تسري في قبة السماء، هي منفصلة عن الأرض بذاتها ولكنها متصلة بالأرض من خلال أشعتها، تلك هي حركة الروح مهما تقلبت متصلة بالجسد الذي واراه التراب، هذه حقيقة علمية ينبغي أن نعلمها. ومن هنا أمكن أن يتعرض الإنسان في حياته البرزخية للنعيم وللعذاب، ومن هنا لابد أن نصدِّق بيان الله سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن الحياة التي يحياها الميْت إذ ينتقل إلى حياته البرزخية، ألا تقرؤون قول الله عز وجل عن ذاك الذي آمن بالرسل الذين تحدثنا عنهم سورة يس فكان جزاؤه إذ أعلن الإيمان بهم القتل، أخبرنا الله عز وجل عنه قائلاً:
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس : 26-27].
إذاً عندما قيل له: (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) لم يكن ذلك في اليوم الآخر – يوم تقوم الساعة – بدليل أنه قال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
ومن هنا يقول الله سبحانه وتعالى عن فرعون وآله:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً) [غافر : 46].
في هذه الحياة البرزخية، ثم قال:
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر : 46].
هذه هي حقيقة الموت يا عباد الله. إذاً الموت بحد ذاته ليس مصيبة للميْت ولكنه مصيبة للأحياء الذين يفارقون قريبهم أو حميمهم أو صديقهم أو حبيبهم. الموت مصيبة للأحياء الذين ودَّعوا الميْتَ الذي رحل قبلهم إلى الله عز وجل. أما بالنسبة للميْت فهو الذي ينسج للموت حقيقته ومعناه، ينسج للموت حقيقته في الحياة التي يعيشها في هذه الدنيا، إن شاء جعل من الموت الذي هو على ميعاد معه عرساً وأي عرس، وإن شاء جعل من الموت الذي هو على موعد معه شقاءً وأي شقاء. الإنسان الذي التزم في حياته الدنيا بأوامر الله، نفَّذَ أوامره جهد الاستطاعة وتسامى عن المنكرات التي حذره منها جهد الاستطاعة ثم جاءه الموت وهو على هذه الحال لابد أن يتلقى البشارة، يراها بأم عينيه، ألم يقل المصطفى فيما ترويه عائشة:
(من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، قالت عائشة: يا رسول الله أهو الموت؟ فكلنا يكره الموت. قال لها: (ليس بذاك ولكن المؤمن إذا دنا أجله ووقع في سياق الموت بُشِّرَ بلقاء الله عز وجل وبالنعيم الذي ينتظره فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله ومن الموت، وأما الكافر أو الفاجر فإن يُبَشَّرُ بمقت الله عز وجل وعذابه، يرى مظاهر ذلك بعينيه فلا يكون شيء أبغض إليه من الموت وما هو لاقيه بعد الموت).
عباد الله: هذه الحقيقة ينبغي أن نكون على ذكر منها كما أمر رسول الله r. ترى لماذا لا يكون شأننا كشأن ذلك الإنسان الحصيف وقد ضربت لكم فيما أذكر مثاله إلى جانب مثال إنسان أحمق أيضاً؟ هما شخصان استأجر كل منهما داراً من صاحبها والعقد ينص على أنه لابد أن يخرج من الدار بعد عشر سنوات، أما أحدهما فأحمق، نظر إلى هذه الدار وما فيها من فاخر الفرش والرياش فسكر بها ونسي أن له خَرِبَة تحتاج إلى رعاية، تحتاج إلى ترميم، نسي هذه الحقيقة وسكر بالدار التي استأجرها وأخذ يتقلب منها في نعيم حجبه عن الدار التي كان يملكها والتي تحتاج إلى رعاية وترميم، وسرعان ما انتهت المدة وأقبل صاحب الدار يطلب منه الخروج من داره لأن ميقات الاستئجار قد انتهى، نظر إلى خربته، تذكرها آنذاك، وإذا هي تقول له: أنا آسفة، لست مؤهلة لك أبداً، خيرٌ لك أن تكون في العراء من أن تضمك هذه الخربة التي لم تنظر إليها ولم تُعْنَى بها.
أما ذلك الآخر الذي يتعامل مع عقله، يتعامل مع المستقبل الذي هو على موعد معه فكان يتمتع بالدار التي استأجرها وكان يذهب في كل يومٍ لينظر إلى داره وخربته التي تحتاج إلى رعاية، تحتاج إلى ترميم فكان ينفق على رعايتها في كل يومٍ ساعتين أو ثلاث ساعات ثم يعود لينعم بداره التي استأجرها، داره المستودع، يعيش في داره المستودع ويرعى داره المَقَر، فلما انتهت المدة وانطوت السنوات العشر وأقبل صاحب الدار يطلب منه الخلو قال له: شكراً، ونظر إلى الدار وهي جميلة مهيأة تقول له: مرحباً بك لقد أنفقت خلال هذه المدة زمناً لرعاية دارك التي تملكها والتي يعود إليها قرارك. أليس هذا واقعنا يا عباد الله؟ هل فينا من يستطيع أن يفر من هذا الموت الذي نحن جميعاً منه على ميعاد؟ لماذا لا نجمع بين الحسنيين؟ لماذا لا نتقلب في رغدٍ من العيش في حياتنا التي أقامنا الله عز وجل فيها ولماذا لا نرعى دارنا التي سنرحل إليها لماذا لا نرعاها من خلال الالتزام بأوامر الله، من خلال الإصغاء إلى وصايا الله سبحانه وتعالى؟ أنحن عبيد أم أحرار يا عباد الله؟ سؤال سألته نفسي مراراً وأحب أن أسأله كل واحد منكم، أحب أن أطرح هذا السؤال على كل من يسمع الساعة كلامي، أنحن أحرارٌ أم عبيد؟ إن كنا أحرارً فلنعش كما نهوى ولنتقلب في نعيم لا حدود له ولنفعل كل ما تتشهاه نفوسنا، وإن كنا عبيداً نتفاعل بالمعاني التي ملَّكَنَا الله إياها ولا نفعلها، إن كنا عبيداً لا نملك حياتنا، لا نملك نومنا ولا يقظتنا، لا نملك اللقمة التي نزدردها في حلوقنا، إن كنا لا نملك العقل الذي نفكر به ونعلم متى يحول العقل إلى خرافة نعاني منها، إن كنا عبيداً فلنعلم من هو الذي يتحكم بنا، فلنعلم من هو الذي نواصينا بيده، فلنعلم إلام سيؤول أمرنا، ما هو هذا الموت الذي يتربص بنا، إن كنا نعلم أننا عبيد – ونحن عبيد – فلنسر سيرة العبيد وبوسعنا أن نجمع بين أمرين يتعانقان؛رغد العيش:
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : 32].
والاستعداد للرحيل، للحياة البرزخية، أما والله إنها لبشارة عند الموت لمن سار على النهج الذي أمر الله، أو نذير عند الموت يراه بأم عينيه لمن أعرض واستكبر على حكم الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه يغفر لكم.
أهمية ذكر الموت في حياة المسلم
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
أحدثكم اليوم في أمرٍ ما أكثر من يشمئزون من الحديث عنه وما أكثر الفئات التي تستوحش من الاستماع إلى حديثه، ألا وهو الحديث عن الموت.
ويا عجباً لم يستوحش من الحديث عن الموت أو يشمئز من الاستماع إلى حديثه وشأنه وقد سمع رسولَ الله يقول في الحديث الصحيح:
(أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات فإنه ما ذُكِرَ في كثيرٍ – أي من المعاصي – إلا قلَّلَه، وما ذُكِرَ في قليلٍ – أي من الطاعات – إلا كثَّرَه).
تذكُّر الموت مع فهم معناه هو الذي يُقَلِّم مخالب البغي في المجتمع، تذكر الموت مع معرفة حقيقته هو الذي يحطم أنياب الظلم والطغيان في المجتمع، تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الذي يجتث الفساد من جوانب المجتمع. أجل – يا عباد الله – تذكر الموت مع فهم حقيقته هو الكابح الذي يقي المجتمع من الانزلاق في مهاوي الفساد ومهاوي الضلال، هو الكابح الذي يوقظ الأفراد والمجتمعات إلى الطريق السوي ويبعدهم عن المنزلقات المهلكة، وأنتم تعلمون أن الكابح وإن كان دوره في الواقع المرئي يأتي بعد التصرف ولكن دوره في الاعتبار يكون قبل التصرف. من أجل هذا قدَّمَ البيان الإلهي الموت على الحياة عندما قال:
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }[الملك : 1-2]
كان المقتضى – بحسب الظاهر – أن يقول: الذي خلق الحياة والموت. ذلك هو الترتيب المرئي في واقعنا المعاش ولكنه الكابح والكابح ينبغي أن يكون دائماً مقدماً في الذهن، ينبغي أن يكون مقدماً في الاعتبار.
فأنا إنما أريد أن أذكر نفسي وأن أذكركم بهذا الذي يأمرنا رسول الله بأن نكثر من ذكره. أريد أن أحدثكم عن الكابح الذي ينبغي أن لا ننساه في غمار حياتنا الاجتماعية المختلفة. الموت الذي أكَّدَ البيان الإلهي في أكثر من أسلوب ومناسبة بأن الإنسان على موعد بل على ميعاد حتمي معه، ألم يقل:
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة : 8].
ألم يقل:
(أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء : 78].
ألم يقل:
(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران : 185].
ألم يقل لحبيبه المصطفى:
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر : 30].
ولكن ما هو الموت يا عباد الله؟
لقد تسربت إلينا عدوى من الغرب تقول: إن الموت هو العدم. وما أكثر ما تسربت إلينا من العدوى عدوى الأفكار، عدوى الشعارات، عدوى الخرافات فتوضعت فيما بيننا، ألا تسمعون إلى قائلهم يقول: لقد حُكِمَ على فلان بالإعدام، يُفَسَّرُ الموت بالعدم، فهل الموت هو العدم يا عباد الله؟ معاذ الله. الموت هي مرحلة الحياة الثالثة من مراحل أربع لابد أن يتنقل فيها الإنسان من واحدة إلى أخرى أما المرحلة الأولى فهي حياة الأجنة، تليها هذه المرحلة التي نعيشها اليوم في غمار دنيانا هذه، أما المرحلة الثالثة فهي الحياة البرزخية التي سننتقل إليها من خلال بوابة الموت، وأما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي التي تكون في دار القرار يوم تقوم الساعة. وكل مرحلة من هذه المراحل أوسع مجالاً وأقوى حقيقة من المرحلة التي قبلها. أقول لكم كلاماً ينبثق من قوانين العلم ولا ينبثق من الأخيلة الخيالية أو الغيبية أبداً.
الإنسان – يا عباد الله – ثنائي التركيب، سواء وهو يعيش فوق الأرض حياتَه الدنيوية هذه أو يعيش حياته البرزخية بعد أن يؤول إلى القبر الذي هو على موعدٍ معه، هو على كلٍّ ثنائي التركيب.
أما في حياته الدنيا فتكون الروح تابعة للجسد، تكون الروح محبوسة في هذه المرحلة لحساب الجسد، لا تستطيع الروح أن تتحرك إلا ضمن النطاق الذي يستطيع الجسد أن يتحركه، فإذا انتقل الإنسان إلى الحياة البرزخية انعكس الأمر وأصبح الجسد هو التابع للروح وأصبحت الروح أشبه ما تكون بهذه الشمس التي تسري في قبة السماء، هي منفصلة عن الأرض بذاتها ولكنها متصلة بالأرض من خلال أشعتها، تلك هي حركة الروح مهما تقلبت متصلة بالجسد الذي واراه التراب، هذه حقيقة علمية ينبغي أن نعلمها. ومن هنا أمكن أن يتعرض الإنسان في حياته البرزخية للنعيم وللعذاب، ومن هنا لابد أن نصدِّق بيان الله سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن الحياة التي يحياها الميْت إذ ينتقل إلى حياته البرزخية، ألا تقرؤون قول الله عز وجل عن ذاك الذي آمن بالرسل الذين تحدثنا عنهم سورة يس فكان جزاؤه إذ أعلن الإيمان بهم القتل، أخبرنا الله عز وجل عنه قائلاً:
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس : 26-27].
إذاً عندما قيل له: (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) لم يكن ذلك في اليوم الآخر – يوم تقوم الساعة – بدليل أنه قال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
ومن هنا يقول الله سبحانه وتعالى عن فرعون وآله:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً) [غافر : 46].
في هذه الحياة البرزخية، ثم قال:
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر : 46].
هذه هي حقيقة الموت يا عباد الله. إذاً الموت بحد ذاته ليس مصيبة للميْت ولكنه مصيبة للأحياء الذين يفارقون قريبهم أو حميمهم أو صديقهم أو حبيبهم. الموت مصيبة للأحياء الذين ودَّعوا الميْتَ الذي رحل قبلهم إلى الله عز وجل. أما بالنسبة للميْت فهو الذي ينسج للموت حقيقته ومعناه، ينسج للموت حقيقته في الحياة التي يعيشها في هذه الدنيا، إن شاء جعل من الموت الذي هو على ميعاد معه عرساً وأي عرس، وإن شاء جعل من الموت الذي هو على موعد معه شقاءً وأي شقاء. الإنسان الذي التزم في حياته الدنيا بأوامر الله، نفَّذَ أوامره جهد الاستطاعة وتسامى عن المنكرات التي حذره منها جهد الاستطاعة ثم جاءه الموت وهو على هذه الحال لابد أن يتلقى البشارة، يراها بأم عينيه، ألم يقل المصطفى فيما ترويه عائشة:
(من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)، قالت عائشة: يا رسول الله أهو الموت؟ فكلنا يكره الموت. قال لها: (ليس بذاك ولكن المؤمن إذا دنا أجله ووقع في سياق الموت بُشِّرَ بلقاء الله عز وجل وبالنعيم الذي ينتظره فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله ومن الموت، وأما الكافر أو الفاجر فإن يُبَشَّرُ بمقت الله عز وجل وعذابه، يرى مظاهر ذلك بعينيه فلا يكون شيء أبغض إليه من الموت وما هو لاقيه بعد الموت).
عباد الله: هذه الحقيقة ينبغي أن نكون على ذكر منها كما أمر رسول الله r. ترى لماذا لا يكون شأننا كشأن ذلك الإنسان الحصيف وقد ضربت لكم فيما أذكر مثاله إلى جانب مثال إنسان أحمق أيضاً؟ هما شخصان استأجر كل منهما داراً من صاحبها والعقد ينص على أنه لابد أن يخرج من الدار بعد عشر سنوات، أما أحدهما فأحمق، نظر إلى هذه الدار وما فيها من فاخر الفرش والرياش فسكر بها ونسي أن له خَرِبَة تحتاج إلى رعاية، تحتاج إلى ترميم، نسي هذه الحقيقة وسكر بالدار التي استأجرها وأخذ يتقلب منها في نعيم حجبه عن الدار التي كان يملكها والتي تحتاج إلى رعاية وترميم، وسرعان ما انتهت المدة وأقبل صاحب الدار يطلب منه الخروج من داره لأن ميقات الاستئجار قد انتهى، نظر إلى خربته، تذكرها آنذاك، وإذا هي تقول له: أنا آسفة، لست مؤهلة لك أبداً، خيرٌ لك أن تكون في العراء من أن تضمك هذه الخربة التي لم تنظر إليها ولم تُعْنَى بها.
أما ذلك الآخر الذي يتعامل مع عقله، يتعامل مع المستقبل الذي هو على موعد معه فكان يتمتع بالدار التي استأجرها وكان يذهب في كل يومٍ لينظر إلى داره وخربته التي تحتاج إلى رعاية، تحتاج إلى ترميم فكان ينفق على رعايتها في كل يومٍ ساعتين أو ثلاث ساعات ثم يعود لينعم بداره التي استأجرها، داره المستودع، يعيش في داره المستودع ويرعى داره المَقَر، فلما انتهت المدة وانطوت السنوات العشر وأقبل صاحب الدار يطلب منه الخلو قال له: شكراً، ونظر إلى الدار وهي جميلة مهيأة تقول له: مرحباً بك لقد أنفقت خلال هذه المدة زمناً لرعاية دارك التي تملكها والتي يعود إليها قرارك. أليس هذا واقعنا يا عباد الله؟ هل فينا من يستطيع أن يفر من هذا الموت الذي نحن جميعاً منه على ميعاد؟ لماذا لا نجمع بين الحسنيين؟ لماذا لا نتقلب في رغدٍ من العيش في حياتنا التي أقامنا الله عز وجل فيها ولماذا لا نرعى دارنا التي سنرحل إليها لماذا لا نرعاها من خلال الالتزام بأوامر الله، من خلال الإصغاء إلى وصايا الله سبحانه وتعالى؟ أنحن عبيد أم أحرار يا عباد الله؟ سؤال سألته نفسي مراراً وأحب أن أسأله كل واحد منكم، أحب أن أطرح هذا السؤال على كل من يسمع الساعة كلامي، أنحن أحرارٌ أم عبيد؟ إن كنا أحرارً فلنعش كما نهوى ولنتقلب في نعيم لا حدود له ولنفعل كل ما تتشهاه نفوسنا، وإن كنا عبيداً نتفاعل بالمعاني التي ملَّكَنَا الله إياها ولا نفعلها، إن كنا عبيداً لا نملك حياتنا، لا نملك نومنا ولا يقظتنا، لا نملك اللقمة التي نزدردها في حلوقنا، إن كنا لا نملك العقل الذي نفكر به ونعلم متى يحول العقل إلى خرافة نعاني منها، إن كنا عبيداً فلنعلم من هو الذي يتحكم بنا، فلنعلم من هو الذي نواصينا بيده، فلنعلم إلام سيؤول أمرنا، ما هو هذا الموت الذي يتربص بنا، إن كنا نعلم أننا عبيد – ونحن عبيد – فلنسر سيرة العبيد وبوسعنا أن نجمع بين أمرين يتعانقان؛رغد العيش:
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : 32].
والاستعداد للرحيل، للحياة البرزخية، أما والله إنها لبشارة عند الموت لمن سار على النهج الذي أمر الله، أو نذير عند الموت يراه بأم عينيه لمن أعرض واستكبر على حكم الله. أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه يغفر لكم.