احد خطب الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
الآية الكبرى التي تنطق بوجود الله
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك. سبحانك اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله. خير نبي أرسله. أرسله الله إلى العالم كلِّهِ بشيراً ونذيراً. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى. أما بعد فيا عباد الله:
إن هذا الكون الذي أقامنا الله فيه مليء بالأدلة والآيات الباهرة الكثيرة الناطقة بوجود الله سبحانه وتعالى والدالة على وحدانيته وعلى قاهريته وعلى سلطانه المنبسط على الكون كله. تجدون هذه الدلائل منتشرة منبسطة في السماء الذي نراه في صباحنا ومساءنا، تجدون هذه الدلائل المتنوعة منتشرة ومنبسطة في فجاج الأرض، في عالم النباتات والأدغال والحيوانات، تجدون هذه الأدلة منبسطة واضحة نيرة في عالم البحار، تجدون هذه الأدلة ناطقة بوجود الله وعظيم سلطانه وعبودية الإنسان لله في أنفسنا
{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات : 21] صدق الله
ولكن ما رأيت دليلاً أوضح وأجلى في النطق بوجود الله ووحدانيته وقاهريته من هذا الدليل التالي.
تنظر إلى إنسان يحمل في ذهنه أوقاراً من المعارف والعلوم وأوتي ثقافة منبسطة متنوعة ولكنه يصر على الاستكبار على الحق، يصر على العناد انتصاراً لأنانية النفس، تنظر إليه وإذا بعينيه تنظران إلى ملكوت الله عز وجل ولكنه لا يبصر في هذا الملكوت شيئاً، تحدثه عن الدلائل الناطقة بسلطان الله وعبودية الإنسان لله، يحدق بعينيه هنا وهناك ولكنه لا يبصر من ذلك شيئاً، تسمعه آيات الله الباهرة التي تنزلت علينا عن طريق رسول الله وإذا به لا يسمع وكأن في أذنيه وقراً، تناقشه وتحدثه بالأدلة المنطقية والعلمية وإذا بقلبه مقفل وإذا بعقله مطوي عن الإدراك. هذه الظاهرة نراها كثيراً، ما سببها وما هي خلفيتها؟
هذا إنسان استكبر على الله عز وجل فعجَّل الله له العقاب في الدنيا فمد على عينيه غشاوة لا يبصر بسببها، وكذلك جعل في أذنيه الصمم فهو لا يسمع، هم الذين حدثنا البيان الإلهي عنهم قائلاً:
{خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة : 7].
هذه هي الآية الكبرى التي تنطق بوجود الله.
العقل موجود ولكن الله شلَّه عن الفاعلية
والعينان تنظران وتبصران ولكن الله عز وجل شلَّ هاتين العينين عن فاعلية الرؤية والإدراك
السمع موجود ولكن الله عز وجل عجَّلَ عقاب صاحب هاتين الأذنين فأدخل فيهما الوقر.
هذا هو الدليل الباهر المخيف على سلطان الله عز وجل قاهريته، أن يكون الإنسان عاقلاً مثقفاً يحمل – كما قلت لكم – أوقاراً من الأدلة الباهرة الناطقة بوجود الله عز وجل ولكن كِبْرَه كان سبباً في تعجيل العقاب الإلهي له، تجلى هذا العقاب بأن فصل ما بين حواسه وعقله المدرك وما بين الدلائل الناطقة بوجود الله عز وجل. هؤلاء هم الذين قال الله عز وجل عنهم:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف : 57].
هذا كلام الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا}
أعرض عنها استكباراً
{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}
هؤلاء هم الذين قال الله عز وجل عنهم:
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا}{وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف : 146]. أي استكباراً
هؤلاء هم الذين قال الله عز وجل عنهم:
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر : 14-15].
عباد الله: لا يحول بين الإنسان ورؤية مولاه وخالقه بعين بصيرته لا بصره إلا شيء واحد؛ العناد والاستكبار. وما كفر من كفر في العهود الغابرة أو في هذا العصر إلا بسبب الاستكبار الذي تكون منه حجاب بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
وإنكم لتعلمون بل لتجدون أو تسمعون النذر تِلْوَ النذر المخيفة تتنزل على أناس هنا وهناك لتوقظهم ولتنبهم فأما المستكبرون فلا تحرك منهم ساكناً ولا تنبه فيهم عقلاً، وأما الذين عافاهم الله عز وجل من الاستكبار فهم يعلمون معنى هذه الرسائل المخيفة التي تأتي تباعاً بالمناسبات لتخيف الشارد ولتوقظ النائم ولتنبه الغافل، وصدق الله القائل:
{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد : 31].
ألا تذكرون قاهرية الله سبحانه وتعالى وبطشه الذي فاجأ الناس جنوب شرقي آسيا – سونامي – قبل سنوات طوال؟! ألا تذكرون ذلك؟! كيف كان موقف المستكبرين المحجوبين بالاستكبار عن الله. قالوا إنها غضبة الطبيعة، إنها تمرد الطبيعة، تمرد الطبيعة حوَّلَ البحر إلى أفواه فاغرة عجيبة ابتلعت في لحظة واحدة وجوداً كبيراً في تلك البقاع.
ألا تذكرون أولئك السهارى السكارى الذين كانوا يسهرون في منتجع بحري في جهة من جهات تركيا كيف أن السكر دفعهم إلى أن يترجموا سكرهم بالسخرية من القرآن، بالاستهزاء بكتاب الله، استقدم أحدهم القرآن ليشفي غليله وهو سكران سخرية منه. ما الذي حصل؟
فجأة تحول ذلك المنتجع إلى فمٍ فاغر ابتلع كل من كانوا فيه بلحظة واحدة.
أما الذين تحرروا من الاستكبار والذين رأوا هذا بأعينهم أو شاهدوه من بعيدٍ أو قريبٍ أو سمعوا به ففاضت أفئدتهم مخافة من الله وتعظيماً له وازدادوا إيماناً به وازدادوا إيماناً بقاهرية الله وسلطانه، وأما المستكبرون فما أفادهم ذلك شيئاً وصدق فيهم قول الله:
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [الحجر : 14-15].
ألا تذكرون العواصف بل سلسلة العواصف التي جاءت إلى شطآن فلوريدا في أمريكا فكانت تقتلع الأشجار وكانت تُطِيْرُ العربات وكانت تهدِّم البنيان.
أما المستكبرون فنظروا إليها على أنها زمجرة الطبيعة وعلى أنها تمرد الطبيعة - استكبار - وأما الذين يتعاملون مع عقولهم فعلموا أن ذلك مصداق قول الله عز وجل:
{وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد : 31].
ونحن يا عباد الله نحمد الله على أنا حُرِّرْنَا من كبريائنا، هذا فضل كبير من الله.
نحمدك مولانا أن حررتنا من الكبرياء والعناد فلم تبتلينا بغاشيةٍ تمتد على أبصارنا، ها نحن نرى بأبصارنا دلائل وحدانيتك ووجودك وسلطانك الباهر، نحمدك اللهم على أن لم تبتلنا بوقرٍ في آذاننا لأننا عبادك المؤمنون بك، لسنا مستكبرين.
عباد الله: إنكم لتعلمون أننا في أخريات أيام الخريف وأن رياح الشتاء تهب علينا من قريب، أين هو الشتاء؟!
أين هي رحمة الله سبحانه وتعالى التي عوَّدَنا الله عليها في مثل هذه الأيام بل قبل هذه الأيام أيضاً.
أين الشتاء من يومٍ ترقى حرارته إلى ما يزيد على ثلاثين.
ألا تلاحظون، ألا تتساءلون ماذا لو أن هذه الحال امتدت أسابيع بل ربما أشهر إلى ما يؤول حالنا نحن، إلى ما يؤول حالك يا ابن آدم وأنت الذي تفتح فمك دائماً تنتظر قطر السماء ليرويك، أنت الذي تفتح فمك دائماً تنتظر رزق الله عز وجل يهمي إليك من سمائه أو يخرج وينبعث لك من أرضه. ماذا تصنع أنت الذي لا تستغني عن ماءٍ تشربه ولا عن طعامٍ تأكله إن ظل الأمر على هذا المنوال، أتقول الطبيعة؟ حسناً مفتاح الطبيعة فيما يزعم هؤلاء هو العلم فما لهم لا يستعملون مفتاح العلم ليُخضعوا الطبيعة لعلومهم.
هذا النذير الذي يطل علينا أيها الإخوة نذير خطير له ما وراءه، ولقد قلت وحذرت ولقد نبهت نفسي ونبهت إخواني إلى أننا ما ينبغي أن نتعرض لغضب الله، ما ينبغي أن نتعرض لسخط الله، نحن عبيد وينبغي أن نتعامل مع الله على أننا عبيده، إن لم تستيقن بذلك مشاعرنا وقلوبنا وعقولنا اليوم فلسوف تستيقن به وتخضع له عما قريب عندما نمتد على فراش الموت. أروني المستكبر الذي يعبث والذي يسخر بدين الله أو بكتابه أروني حاله يوم يمتد على فراش الموت ويوم يقع في ساعة النزع ويوم يدخل عليه ملك الموت وهو يراه بعينيه إلى ما يؤول استكباره؟ إلى ما يؤول عناده؟!
بل أروني حال المستكبرين إذا أصبحنا في يومٍ من الأيام وإذا بهذا النبع الثر قد انقطع وأصبح ماؤه غوراً، ماذا يصنع هؤلاء المستكبرون على الله؟ أبعيدٌ هذا؟ لا والله، والله إنه ليس ببعيد وأسأل الله العفو والعافية ولكن ما أقرب أن تستيقظوا في يومٍ من الأيام وإذا بهذا المعين الذي يكرمنا الله عز وجل به على الرغم من آثامنا وأخطاءنا قد أصبح غوراً.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} [الملك : 30].
سلوا المعرضين عن كتاب الله، سلوا المستهزئين بدين الله، سلوا الذين جعلوا من أنفسهم وعقولهم عبيداً لما يسمونه الطبيعة ماذا تصنعون؟ من أين تأتون بالماء الذي تروون به ظمأكم؟ من أين تأتون بالطعام الذي تسكتون به جوعتكم. الإنسان ضعيف.
{وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء : 28].
وأشنع شيءٍ في حياة هذا الإنسان الضعيف أن يركبه الاستكبار، على الرغم من ضعفه ينسى ذله، ينسى عبوديته لله سبحانه وتعالى ثم إنه يستكبر على الله ويفعل ما تدعوه إليه رعونته.
هذه الحقيقة أيها الإخوة ينبغي أن نتمثلها. سائلوا أنفسكم إلى ما سيؤول أمرنا إذا استمرت بنا هذه الحال. دخل الخريف وهاهو ذا يهب ليمضي وها هي ذي رياح الشتاء تقبل ولا نزال نتقلب في الصيف الماضي.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.